السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة الإيمان بالقدر: هو الاعتقاد الجازم بأن الله خالقكل شيء وربه ومليكه ، وأنه تعالى قدرالمقادير خيرها وشرها ، حلوها ومرها، وهو الذي خلق الضلالة والهداية ،والشقاوة والسعادة وأن الآجالوالأرزاق بيده سبحانه وتعالى .
والقدر بفتح الدال: تقدير الله تعالىللكائنات حسبما سبق به علمه واقتضتهحكمته.
والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور:
الأول : الإيمان بأن اللهتعالى عالم بكل شيء جملة و تفصيلا،أزلاً وأبداً، سواء كان ذلك ممايتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده.
الثاني :الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوحالمحفوظ ، وفي هذين الأمرين يقولالله تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّاللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَآءِوَالأرْضِ إِنّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍإِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ}54 .
الثالث: الإيمان بأن جميعالكائنات لا تكون إلا بمشيئة اللهتعالى ، سواء كانت مما يتعلق بفعله،أم مما يتعلق بفعل المخلوقين، قالالله تعالى فيما يتعلق بفعله: {وَرَبّكَيَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}55.
وقال تعالى فيما يتعلق بفعلالمخلوقين : {وَلَوْ شَآءَ اللّهُلَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْفَلَقَاتَلُوكُمْ}56.
الرابع : الإيمان بأن جميعالكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتهاوصفاتها وحركاتها ، قال تعالى : {اللّهُخَالِقُ كُـلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىَكُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}57،وقال{وَخَلَقَ كُلّشَيْءٍ فَقَدّرَهُ تَقْدِيراً}58،وقال عن نبيهإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قاللقومه:{وَاللّهُ خَلَقَكُمْوَمَا تَعْمَلُونَ}59 .
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لاينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعالهالاختيارية وقدره عليها ، لأن الشرعوالواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع: فقد قال اللهتعالى في المشيئة: {فَمَن شَآءَاتّخَذَ إِلَىَ رَبّهِ مَآباً}60 ، وقال : {فَأْتُواْحَرْثَكُمْ أَنّىَ شِئْتُمْ}61 ، وقال في القدرة: {فَاتّقُواْاللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْوَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ}62 ، وقال : {لاَيُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّوُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْوَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }63 .
وأما الواقع: فإن كل إنسانيعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعلوبهما يترك ، ويفرق بين ما يقعبإرادته كالمشي ، وما يقع بغيرإرادته كالارتعاش ، لكن مشيئة العبدوقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالىوقدرته ، لقوله تعالى : {لِمَنشَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَآءُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَاللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ}64 ، ولأن الكون كلهملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيءبدون علمه ومشيئته .
والإيمان بالقدر علىما وصفنا لا يمنح العبد حجة على تركالواجبات ، أو فعل من المعاصي ، وعلىهذا فاحتجاجه باطل من وجوه :
الأول : قولهتعالى : {سَيَقُولُ الّذِينَأَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَآأَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَحَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَكَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمحَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْهَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍفَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِنتَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْأَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ}65 ، ولوكان لهم حجةبالقدر ما أذاقهم الله بأسه.
الثاني : قوله تعالى : {رّسُلاًمّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّيَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِحُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَاللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}66 ، ولو كان القدرةحجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسللأن المخالفة بعد إرسالهم واقعةبقدرة الله تعالى .
وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
الأولى : الاعتماد على اللهتعالى عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمدعلى السبب نفسه لأن كل شيء بقدر اللهتعالى.
الثانية : أنلا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده ،لان حصوله نعمة من الله تعالى بماقدره من أسباب الخير والنجاح وإعجابهبنفسه ينسيه شكر هذه النعمة.
الثالثة :الطمأنينة والراحة النفسية بما يجريعليه من أقدار الله تعالى، فلا يقلقبفوات محبوب أو حصول مكروه، لأن ذلكبقدر الله الذي له ملك السماواتوالأرض وهو كائن لا محالة، وفي ذلكيقول الله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِنمّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَأَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّنقَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَعَلَى اللّهِ يَسِيرٌ * لّكَيْلاَتَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْوَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْوَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍفَخُورٍ}67.ويقول النبي بالقدر:"عجبـالأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليسذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراءشكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبرفكان خيرا له ". رواه مسلم.
وقد ضل في القدرطائفتان:
الأولى : الجبرية الذينقالوا إن العبد مجبر على عمله وليس لهفيه إرادة ولا قدرة.
الثانية :القدرية الذين قالوا إن العبد مستقلبعمله في الإرادة والقدرة وليسلمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر.
والرد على الطائفةالأولى (الجبرية) بالشرع والواقع:
أما الشرع فإن الله تعالى أثبتللعبـد إرادة ومشيئة وأضاف العملإليـه قال الله تعالى : {مِنكُممّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّنيُرِيدُ الاَخِرَةَ}68 .
وأما الواقع فإن كلإنسـان يعلم الفرق بين أفعـالهالاختيارية التي يفعلها بإرادتهكالأكل والشرب والبيع والشراء ، وبينما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاشمن الحمى والسقوط من السطح ، فهو فيالأول فاعل مختار بإرادته من غيرجبر، وفي الثاني غير مختار ولا مريدلما وقع عليه.
والرد على الطائفةالثانية (القدرية) بالشرع والعقل:
أما الشرع فإن الله تعالى خالق كل شيءوكل شيء كائن بمشيئته، وقد بين اللهتعالى في كتابه أن أفعال العباد تقعبمشيئته فقال تعالى : {وَلَوْ شَآءَاللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِنبَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَاجَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُوَلَـَكِنِ اخْتَلَفُواْفَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْمّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَااقْتَتَلُواْ وَلَـَكِنّ اللّهَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}69 ، وقال تعالى: {وَلَوْشِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍهُدَاهَا وَلَـَكِنْ حَقّ الْقَوْلُمِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَالْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ}70 .
وأما العقل فإن الكون كله مملوك للهتعالى والإنسان من هذا الكون فهومملوك لله، ولا يمكن للمملوك أنيتصرف في - ملك المالك إلا بإذنهومشيئته.